قوى المونتاج الخلاقة




قوى المونتاج الخلاقة
 
يعد اكتشاف المونتاج هو المدخل الرئيسي نحو اكتشاف فن السينما. فمن خلال مراحل استخداماته بدءا بإدوين بورتر ثم جريفث ووصولا إلى المدرسة الروسية - بودفكن وايزنشتاين - ثبت انه الركيزة الأساسية في اللغة السينمائية. وإذا كان المونتاج من وجهة نظر المتفرج يبدو كمجرد توصيل للقطات تحرك الحدث أو الأحداث من مكان إلى آخر أو من زمن إلى آخر فإنه من وجهة نظر صانع الفيلم يتجاوز هذا التصور المبدئي - برغم أهميته - ليصل إلى آفاق متعددة ومتباينة تكشف عن إمكاناته الخلاقة.
وحتى نتعرف على منطق توظيف المونتاج والضرورات الفنية الأساسية المرتبطة به, يجب أولاً أن نتعرف على المقومات الخلاقة الكامنة فيه. ولقد اصطلح على تحديد هذه المقومات في قوى رئيسية ثلاث هي أن :
أولا : المونتاج  خلاق للحركة :
بصرف النظر عن الحركة الفعلية التي قد تتضمنها أي لقطة, فعند وصل أي لقطتين معا ينشأ عن هذا الاتصال حس حركي إضافي , نتيجة وصل نهاية اللقطة الأولى ببداية اللقطة التالية وهذا الحس الحركي لا يرتبط بحركة محددة يمكن التعرف على شكلها أو تسميتها ولكنه يحدث بشكل تجريبي نتيجة لحدوث تباين أو أكثر بين بعض المؤثرات البصرية على طرفي اللقطتين اللتين تم وصلهما ... وكلما كان هناك تباين واضح في عنصر أو أكثر من هذه العناصر بين طرفي اللقطتين, نتج هذا الحس الحركي المضمر بشكل أو بآخر. وترتبط درجته بمدى التباين وعدد العناصر التي يحدث من خلالها. بعبارة أخرى كلما كان التباين قويا وعدد العناصر كبيرا نسبيا كلما زاد هذا الحس الحركي والعكس صحيح وهذا يمكن تبينه من خلال استعراضنا لهذه المؤثرات الأربعة وهى :
1- موقع نقطة الانتباه أو التركيز الرئيسية :
بمعنى أنه إذا كانت نقطة التركيز الرئيسية التي تنتهي بها اللقطة تقع في أقصى يمين الصورة مثلا, ثم يتم الانتقال إلى لقطة تالية تقع نقطة التركيز بها في أقصى اليسار, فأن مثل هذا الانتقال يحول انتباه المشاهد فجأة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار .. وهذا التحول في الانتباه هو الذي يخلق الإحساس الحركي المضمر وبدرجة عالية نسبيا. وبالقياس على ذلك, لو تم الانتقال من نقطة تركيز في أقصى اليمين مثلا إلى نقطة تركيز اللقطة التالية في منتصف الصورة فإن درجة الإحساس الحركي تقل بالمقارنة بالحالة الأولى. ولو انتقلنا بين نقطتي تركيز في موقع واحد تقريبا بكل من اللقطتين يتضاءل الإحساس الحركي إلى أدنى مستوى. وإن كان هذا لا يمنع بالطبع أن ينشأ حس حركي من مؤثر بصري آخر أو من المؤثرات الأخرى.
2- التكوين الشكلي العام :
ويرتبط بمدى الاختلاف بين طرفي اللقطتين في التكوين العام الناتج عن الخطوط السائدة في الصورة أو الكتلة أو الفراغ ... أو ما نسميه بحجم اللقطة (عامة - متوسطة - قريبة ) .
3- الدرجة الضوئية السائدة :
أي الاختلاف الواضح في الدرجة الضوئية العامة بين طرفي اللقطتين. بمعنى أن الانتقال مثلا من درجة إضاءة منخفضة تقترب من الإظلام, إلى درجة ساطعة أو بالعكس فإن هذا من شأنه خلق إحساس مضمر بالحركة لرد فعل حدقة العين إزاء هذا التغير الحاد.
4- تضاد الاتجاه الحركي :
بمعنى أن القطع من لقطة يتحرك بداخلها شخص أو شيء ما كسيارة مثلا , من اليمين إلى اليسار, إلى لقطة تالية يتحرك الشخص أو السيارة في اتجاه معاكس من اليسار إلى اليمين , من شأنه أن يضيف إلى تأثير الحركة... وكما أسلفنا, فإن درجة الحس الحركي الإضافي تزيد أو تقل وفقا لدرجة التضاد أو التباين من ناحية, ووفقا لعدد العناصر الفاعلة في استخدامها. فكلما زاد التضاد وزاد عدد العناصر الفعالة, كلما ارتفعت درجة الحس الحركي الإضافي والعكس صحيح.
ثانيا : المونتاج خلاق للإيقاع :
يقوم مفهوم دور المونتاج في خلق الإيقاع الفني على حقيقة أن كل تحول من لقطة إلى أخرى يتضمن تغيرا في الانتباه. والتغير في الانتباه بصفة عامة يلعب الدور الرئيسي في خلق الحس الإيقاعي للفيلم الذي لا يتوقف على المونتاج وحده. ذلك لان الإيقاع السينمائي ككل يقوم بشكل عام على تدفق سلسلة طويلة من نقاط الانتباه على مدى الفيلم, ويسهم ذلك، مع المونتاج، في قيامها (أي نقاط الانتباه) بتكوين بعض العناصر المتداخلة تشمل تطور مضمون الفيلم، وأداء الممثل، والحوار، ومؤثرات الحركة.
والقاعدة أن كل نقطة انتباه ترتبط بطول زمني (تقديري) خاص بها, يمثل الزمن اللازم لاستيعابها، فيتم الانتقال من لحظة اكتمال الاستيعاب فورا إلى نقطة جديدة ثم أخرى, وهكذا .. وقد يتم هذا الانتقال بين نقطتين أو أكثر داخل اللقطة فيسمى مجازا بالمونتاج الداخلي, أو يتم من لقطة إلى أخرى وفقا للمعنى الشائع من المونتاج.
وعندما يتم هذا الانتقال في توقيتاته السليمة كمطلب أساسي, يوصف الفيلم بأن له إيقاعا بصرف النظر عن معدل هذا الإيقاع من حيث السرعة والبطء. وفيما يتعلق بدور المونتاج في هذه المنظومة فإنه يقوم مبدئيا على التوقيت السليم في القطع من لقطة إلى أخرى. إلا أن هذا الدور يتعاظم من ناحية أخرى وفقا لمعدل التقطيع, سواء على مستوى الفيلم ككل (طبيعة الفيلم, وأسلوب المخرج) أو على مستوى أجزاء معينة بداخله. والقاعدة الشائعة أنه كلما زادت الأطوال النسبية للقطات, كلما أثر هذا في معدل سرعة الإيقاع بميله نحو الهدوء أو البطء, والعكس صحيح. فكلما قصرت أطوال اللقطات تأثر الإيقاع تبعا لذلك بميله نحو السرعة.
ثالثا : المونتاج خلاق للأفكار والمعاني , والأحاسيس والانفعالات والعواطف :
المونتاج خلاق للأفكار والمعاني والتفسيرات من حيث أن وصل لقطتين أو أكثر قد يخلق مضمونا لم يكن متواجدا في أي من اللقطات على حدة، أو من حيث أن وصلها بطريقة معينة من شأنه أن يوضح العلاقات بين الأحداث أو بين الشخصيات في مواقف معينة, أو بين الأشياء والشخصيات .. وهكذا .. فالقطع مثلا من شخصية ما, إلى ما كانت تنظر إليه يمكن أن يفسر أمرا ما, كما أن القطع بين بعض التعبيرات الصامتة لشخص أو أكثر يمكن أن يخلق نوعا من الحوار الصامت, أو يبرز معنى معينا, أو يؤكد معنى ما سبق التمهيد له.
والمونتاج خلاق للأحاسيس والانفعالات والعواطف , من حيث أن تقطيع ووصل مجموعة من اللقطات بطريقة معينة قد يخلق إحساسا بالتوتر, أو القلق, أو العنف, أو السرعة والحيوية, أو الجمال, أو قد يدعم أيا من هذه المشاعر عندما ترتبط بمضمون مشهد ما قد يتطلب الارتفاع بشحنته الانفعالية أكثر مما ينقله المضمون المجرد وحده .. ذلك لان إدراك مضمون ما قد لا يقتصر فقط على فهم معناه بل يتجاوز ذلك إلى وجوب معايشة ما يرتبط به من أحاسيس وانفعالات بحيث يكونان معا وحدة متكاملة تضم كلا من المعنى والإحساس المرتبط به.
شكرا لك ولمرورك
screenmidea page contents