جورج ميليه وبداية السرد القصصي

جورج ميليه وبداية السرد القصصي

" ظلت آلة التصوير زمنا طويلا جامدة فى مكانها , كما لو كانت موضوعة فى الصفوف الأولى فى المسرح . وهذه هى القاعدة المتعارف عليها , قاعدة زاوية الرؤية , التى قادت" ميليه طوال عمله الفني , هو الذى كان خالقا بالغ الخصوبة والعبقرية " ...... مارسيل مارتن
مع أن التاريخ يسجل للأخوة لوميير أنهم أول من بهروا الجمهور بأفلامهم القصيرة الأولى المتعلقة بالأحداث اليومية , والتي سحرت مشاهديها ,لأنها ظهرت وكأنها تمسك بزمام الأحداث فى عفويتها وسيولتها كما نشاهدها فى الحياة الواقعية . إلا أن ظهور جورج ميليه بعد ذلك بقليل ( عام 1896 ) لينتج مجموعة من الأفلام المغرقة فى الخيال والتي تركز على الأحداث الخيالية البحتة , القائمة على مزيج من السرد الغريب والتصوير بالحيل , كشف عن الوجه الخيالي لها .
ولذلك فقد رأى الكثيرون من مؤرخي السينما فى الأخوة لوميير, وجورج ميليه , مؤسسين لاتجاهين رئيسين سادا السينما على مدى تاريخها , وتفرع عنهما كل الأساليب السينمائية الأخرى . وهذان الاتجاهان تمثلا فى كل من : الواقعية والانطباعية , هذا بالرغم من أن السينما كفن لم تكن قد خطت بعد نحو أول أهم اكتشافاتها المتمثل فى المونتاج . فقد كانت غالبيه أفلام الأخوة لوميير تتكون إما من تسجيل مباشر لأحداث الواقع , أو من مواقف قصيرة يتم تصوير أى منها فى لقطة طويلة , أى فى دورة واحدة متصلة وهى بالغة القصر , لا تتعدى الكم المحدد من الفيلم الخام الذى يتم تعبئة الكاميرا به . وكانت آلة التصوير تثبت فى مكان واحد بعيدة بعدا كافيا مما تصوره حتى تستوعبه بكامله , وتترك للمتفرج فيما بعد حرية اختيار الجزء الذى يرغب فى مشاهدته كما هو الحال فى المسرح . وظلت السينما حبيسة فى هذا الإطار المحدد , الخالي من الخلق أو الابتكار , إلى أن اقتحم ميدانها " جورج ميليه " الذى كان مالكا ومخرجا لمسرح روبير هوديني المتخصص فى الألعاب السحرية .
كان ميليه من المنادين بفن سينمائي خالص . ولكنه عندما انتقل إلى السينما , نقل إليها كل عناصر المزانسين المسرحي تأثرا بعمله الأصلي . إلا أنه وفقا لنظرته إلى السينما كوسيلة ينبغي أن توظف فى الخلق الفنى , فقد بدأ استغلال إمكانيات كاميرا الصور المتحركة فى تقديم الحيل , والخدع السينمائية مثل الاختفاء , أو الظهور المفاجئ للشخصيات, أو التغير المفاجئ للشخصية .
ولكننا سنرى أن الصدفة لعبت دورا فى اكتشاف ميليه للحيلة السينمائية الأولى , حتى أنه يقول فى كتابه "أول تجربه فى الفن السينمائي" : كانت آلة التصوير التى كنت أستعملها فى بداية حياتي الفنية بدائية جدا وكثيرا ما كان شريط الفيلم بداخلها ينقطع أو يعلق بالتروس ويرفض الحركة . وقد حدث يوما أن توقفت الكاميرا عن الدوران وأنا أقوم بتصوير ميدان الأوبرا . وقد أحتاج إصلاحها أو إعادتها إلى الدوران, دقيقة من الزمن .وفى خلال هذه الدقيقة تغيرت أوضاع المارة والمركبات بطبيعة الحال , وحينما عرضت شريط الفيلم , وكان قد التحم فى النقطة التى حدث فيها القطع , رأيت فجأة سيارة ركاب تتحول إلى عربة موتى , ورجالا يتحولون إلى نساء ... وهكذا اكتشفت حيلة الاستبدال المعروفة بحيلة توقف الكاميرا عن الدوران .
وهنا أدرك ميليه أنه قد أدى بآلة التصوير مصادفة دون قصد حيلة لا تقل براعة عن حيله السحرية التى كان يؤديها على المسرح , وقد أستغلها بعد ذلك على نطاق واسع فى فيلمه السيدة المختفية The Vanishing Lady عام 1896
 
والحصن المسكونThe Haunted Castle الذى أنتجه أيضاً عام 1896 .
 
كما أكتشف بالصدفه أيضا, وسيلتي الظهور والاختفاء التدريجي للصورة . فقد كان من عادة ميليه أن يضيق فتحتي العدسة فى نهاية كل مشهد حتى لا يبدو الفيلم كأن فوقه ضباب. وعند تقطيع الفيلم كان يقذف بهذه القطعة فى سلة المهملات , ولكن , حدث فى أحد الأيام بطريق الخطأ أن عرض فيلما بدون قطع هذا الجزء . وهنا لاحظ ميليه أن إختفاء المشهد تدريجياً, كان أحسن وقعا من القطع المفاجىء فهو يماثل نزول الستارة ببطء فوق المسرح فى نهاية الفصل . وقد أوحى إليه هذا الاختفاء بأن يقدم المشهد بطريقة الظهور التدريجي أيضا . وأصبح بذلك أول مكتشف لهذه الوسيلة المونتاجية التى مازالت تستخدم حتى الآن .
وقد قطع ميليه بعد ذلك شوطا بعيدا على طريق الابتكار والكشف عن الخدع السينمائية. فقد أدت درايته الكبيرة بالتصوير الفوتوغرافي وخبرته الواسعة بآلة التصوير السينمائي إلى اكتشاف وسيلة المزج , بين نهاية لقطة وبداية اللقطة التالية . وذلك بإرجاع نهاية اللقطة المصورة بداخل الكاميرا عدة أقدام , ثم يبدأ تصوير بداية المنظر الجديد فوق نهاية المنظر القديم . وقد استخدم هذه الحيلة للربط بين المشاهد , وأصبحت هى الأخرى من وسائل الانتقال المونتاجية التى شاع استخدامها على مدى تاريخ السينما .
لكن ميليه حتى هذة المرحلة كان متأثرا بالمسرح , ويحاول فى أعماله أن يربط بينه وبين السينما . ففي الأفلام التى كان يقوم فيها بدور الساحر كان يدخل بطريقة مسرحية وينحني كما لو كان يواجه النظارة , ثم ينحنى قبل أن يخرج . وكانت المشاهد تقدم متتالية كما يحدث فى المسرح . كما أن علاقة موضع الكاميرا بالنسبة لما تصوره ظلت على وضع ثابت لا تتغير , فهي توضع على مسافة وفى المنتصف , فكان المتفرج يرى جميع المناظر كما لو كان جالسا على أحسن مقعد فى وسط المسرح , والممثلون يأتون إلى المنظر قادمين من الخلف ومن الجانبين , كما أن الحركة تنتظم بشكل أفقي كما يحدث تماماً على خشبة المسرح .
فى هذه المرحلة من صناعة السينما , كانت بضع خدع فى التصوير كافية تماما . ومن ثم لم تكن السينما قد تحولت بعد , نحو تطور جوهري حقيقي يكسبها صفة الفن مثل الفنون الأخرى . وبدت السينما وكأنها قد أعطت كل ما لديها , وخاصة أن شكل الأفلام التى تكتفي بتصوير وقائع متحركة من الحياة اليومية, كانت تمثل اغلبيه ما يتم إنتاجه , كما كانت مازالت بنفس الطول المحدد -50 قدما , بطول زمني دقيقة واحده لكل منها .
ومن ثم فإن الجماهير قد بدأت تفقد اهتمامها بالسينما تدريجيا , مما جعلها تتراجع لتصبح نمرة ثانوية فى مسارح المنوعات . ولم ينقذ السينما من هذا الوضع إلا عندما عرفت أسلوب السرد القصصي المعتمد على شرح القصة وربط أحداثها . ولقد تمت الخطوة الأولى فى هذا الاتجاه على يد ميليه , فقد خطر بباله أن الصور المتحركة تيسر ضم أطوال من الفيلم , ليس فقط لكي تكون نفس المشهد فحسب , وإنما لتكون أيضا عددا من المشاهد المتصلة بموضوع واحد . وشــرع فى تنفيذ فكرته التى بدأها بفيلم" سندريلا" (1899) , ثم فيلم "رحلة إلى القمر" (1902) . وأستطاع بذلك أن ينتقل بالسينما إلى أهم تحول فى تاريخها ... التحول الذى جعل منها الفن السابع بحق .
 
ففيلم "سندريلا "الذى أخرجه ميليه عام 1899 وبلغ طوله 410 أقدام , اعتبر حدثا سينمائيا هاما , هذا وإن كان قد تم تنفيذه متأثرا بالشكل المسرحي. فهو يتكون من عشرون لوحه متحركة , ويقع الحدث الخاص بكل منها أمام منظر خلفي واحد , مستقل تماما فى الزمان والمكان , مثله مثل الفصل فى المسرحية , ولم يحدث أبدا أن بدأ مشهد فى مكان واستمر فى مكان أخر . ولم يكن هناك تسلسل فى الحركة من لقطة إلى أخرى ولم تكن العلاقة الزمنية بين اللقطات المتتالية محدده على الإطلاق . ذلك لأن آلة التصوير كانت مازالت توضع على مسافة معينه من الممثلون وفى مواجهة المنظر الخلفي مباشرة . إلا أن ميليه استخدم مجموعة من اللوحات المكتوبة والمكررة فى بداية كل مشهد لتشكل وقفة زمنية فى القصة شبيهة بالاستراحة بين فصلين فى مسرحية , لتروى للناس القصة ولتفسر لهم الموضوع وتشرح الحوادث وتعلق على المشاهد . وهكذا كان الارتباط بين العشرين لوحة يعتمد على الشخصية الرئيسية , وكانت فى مجموعها تروى قصة أكثر تعقيدا مما يمكن روايته فى أفلام اللقطة الواحدة .وهكذا نجح ميليه فى استخدام الكاميرا السينمائية فى إخراج أفلام تجمع بين القصة التى تعتمد على التمثيل الصامت , وبين ألعابه السحرية .
 
ويعد فيلمه "رحله إلى القمر " عام 1902 أحسن أفلامه ذات الشكل القصصي . وهو يروى فى ثلاثين مشهد قصة رحلة يقوم بها إلى القمر أعضاء المؤتمر العلمي ذهابا وإيابا .وقد أعد ميليه نموذجا للقمر من الورق المقوى ركبه بإتقان أمام الكاميرا . ويذكر ميليه كيف أن الناس تجمعوا حول الأفيش الغريب للقمر الضخم الذى تم تثبيته أمام دار العرض أثناء عرض الفيلم وهم يعلقون عليه :"إنها كذبة , إنها خدعة , هل يظنون أننا مغفلون ؟ هل تظن أنهم استطاعوا الوصول إلى القمر حتى يصوروه ؟ إنهم يسخرون منا ". فقد كان جمهور ذلك الوقت لا يدرى من الحيل السينمائية شيئا , ويعتقد أنه لا يمكن إلا تصوير الأشياء الحقيقية .
 
وهكذا كانت الحيلة عند ميليه تنشد دائما المفاجأة فهي غاية لا وسيلة تعبيرية , ومع ذلك فقد حقق فيلم "رحلة إلى القمر " نجاحا عالميا , وأعطى الشرارة الأولى لسينما "المزانسين" وأرسى بذلك أساس صناعة الفيلم فى العالم .
ورغم أن ميليه كان لا يزال حبيس النظرة المسرحية إلا أن خطوته نحو عصر السرد , اعتبرت بمثابة خطوه ثوريه حتى أن مدير شركة باتيه , وكانت تعتبر أكبر شركه سينمائية فى العالم فى ذلك الوقت , خاطب ميليه مشيدا بما أنجزه قائلا : بفضلك أنت استطاعت السينما أن تستمر وأن تحافظ على وجودها , وأن تصيب نجاحا لا مثيل له . فاستخدامك للمسرح ولموضوعاته المتنوعة فى السينما قد منعها من السقوط . وكان من الممكن أن يحدث ذلك وبسرعة , لو أن السينما استمرت فى تصوير موضوعات الهواء الطلق التى تتشابه بالضرورة, والتي سرعان ما يملها الجمهور.
شكرا لك ولمرورك
screenmidea page contents